بسم الله الرحمن الرحيم
**** الابتسامة الساحرة ****
بأحد أسواق ( فلورنسا) المدينة الإيطالية الرائعة كان ( رفائيل) يحث الخطى
للالتحاق بشخص ما يسبقه بأمتار عديدة ، ويوشك أن يختفي بين حشود
الناس التي أمت السوق لأغراض مختلفة . بالكاد كان يراه مما جعله يقفز
عاليا أحيانا ليتأكد أنه في الطريق الصحيح . كم كان يود أن يصرخ باسمه ،
فيتوقف برهة تسنح له بملاقاته ، لكنه للأسف لم يستطع ذلك ، بل استمر
في مطاردته دون كلل أو ملل ... و نتيجة لضيق الطريق و الازدحام الكثيف
للمشترين بمختلف الأعمار والطبقات الاجتماعية ، فقد كانت هذه الكتلة
البشرية الملتحمة تعوق تقدمه السريع . أما الشخص الذي يلاحقه ، والذي
كان يمسك في يده لوحة زيتية صغيرة الحجم نسبيا مقارنة مع مثيلاتها ،
فقد كان بالعكس من ذلك ، تفسح له الطريق ، ويحظى باحترام الجميع ....
فاضطر ( رفائيل) للزيادة من سرعته مما تسبب له في مواقف محرجة مع
المارة حيث كان يصطدم بهم ، و يدفعهم بيديه وهو يطلب منهم أن
يفسحوا له الطريق ، فكان يلقى منهم رفضا قاسيا ، ومعاملة غير طيبة ،
وتذمرا من تصرفه الغريب بشتى الأشكال ، فتارة يصرخ عليه أحدهم ،
و تارة يشتمه آخر ، و أخيرا تضربه امرأة بكيس في يدها على رأسه لعدم
لباقته مع سيدة مجتمع محترمة !! ... و مما زاد في تعقيد الأمر أنه رد عليها
بعنف ، وصرخ في وجهها ، ونعتها بالقبيحة أمام الجميع ، فأصاب كبرياءها ،
فانفجرت باكية وهي تشكوه للناس بأعلى صوتها ، فتوقفوا جميعهم فجأة
عن التسوق ، ولبوا نداءها ، و اجتمعوا عليه من كل جانب ، ثم انهالوا عليه
ضربا مبرحا ، على مرأى ومسمع من الشخص الذي يلاحقه ، فكان ينظر
إليهم مستمتعا بضربهم إياه ، و ( رفائيل) المسكين يتوسل إليه ، ويناديه
بحرارة لاستغاثته ، و إنقاذه من قبضة هؤلاء الوحوش البشرية الذين أوجعوه
ضربا ، وهو متكور على نفسه دون جدوى:
- أنقذني (ليوناردو) ... أنقذني ( ليوناردو) ...
لكن صيحاته ذهبت أدراج الرياح ، فقد كان ( ليوناردو) يضحك عليه ، وكذلك
المرأة التي رسمها في لوحته الزيتية ، انقلبت ابتسامتها الغامضة إلى
قهقهات عالية ... وبعدما استمتعا كلاهما بهذا العرض المجاني ، ركب
( ليوناردو) عربة أنيقة تجرها أحصنة قوية ، وانطلق به السائق لوجهة
مجهولة ... لكن ( رفائيل) التعيس الحظ لا يزال يصرخ من شدة الألم :
- ( ليوناردو ) ... ( ليوناردو) .... ............................
فجأة استيقظ ( رفائيل) وهو لا يزال يصرخ ، ويحمي وجهه بكلتا يديه :
- ( ليوناردو ) ... ( ليوناردو) ................
نظر من حوله فلم يجد أي أحد ، ووجد نفسه قاعدا على سرير ناعم في
غرفة مظلمة واسعة ، فقال وهو يشعل مصباح الغرفة :
- تبا !!! ... لقد كان كابوسا مرعبا !!! .....
ترك الفراش ببطء ، ولم يرغب في معاودة النوم مجددا ، ألقى نظرة على
ساعة المنبه الذي كان على طاولة صغيرة بجنب سريره فإذا هي الساعة
الثالثة صباحا ، لم يبق الكثير حتى يطلع الصباح وتشرق الشمس ...
شرب كوبا من العصير ، و اتجه نحو شرفة الغرفة التي كانت تطل على برج
( إيفل ) الشهير ، فقد كان نزيلا بأحد فنادق باريس الفاخرة ... كان منظر
البرج خلابا بأنواره التي جعلت من هيكله الحديدي معلما سياحيا عالميا
يستقطب ملايين السياح سنويا من كافة بقاع الدنيا . بعد مدة قصيرة قضاها
في الشرفة أحس ( رفائيل) بالبرد يتسلل إليه ، فرغب بالنوم مجددا على
أمل أن يستيقظ باكرا قبل الثامنة صباحا ، و ألا يصادف في نومه كابوسا
مماثلا لكابوس فلورنسا الأسود !! .. وقد كان محظوظا هذه المرة ، فقد
استغرق في نوم عميق دون أحلام مزعجة ....
في الصباح وعلى الساعة الثامنة تماما رن جرس المنبه موقظا ( رفائيل) من
سباته ... لم يتأخر في الاستيقاظ ، و بعد حمام دافئ تناول فطور صباحه
الذي كان فرنسيا بغرفته .ثم هيأ نفسه لاستقبال زوار معرض رسمه
الذي أقامه بقاعة عرض في حي راق بوسط العاصمة الفرنسية
( باريس) ، وهو يأمل أن تنال لوحاته الزيتية الجديدة رضا عشاق فن
الرسم ، ويتمنى من أعماق قلبه بيع بعض منها بثمن مغر ، يمكنه من
الاستمرار في ممارسة صنعته و هوايته المفضلة الرسم ....
ببذلة سوداء أنيقة ، وعطر فواح غادر الرسام الإيطالي الشاب ( رفائيل)
ذو الثلاثة والثلاثين عاما شقة الفندق ، ثم ركب سيارته الألمانية ( bmw )
الجذابة ، وانطلق بها صوب قاعة العرض بوسط ( باريس) عاصمة الجن
والملائكة.... كانت القاعة تحتوي على عدد لا بأس به من عشاق فن
( رفائيل) بعد تقريبا ساعة من افتتاحها ، وهو مؤشر جيد ينبئ بيوم
سعيد ... مع مرور الوقت ازداد عدد الزائرين ، واكتظت القاعة بهم ، وتمكن
( رفائيل) من بيع أربع لوحات بأثمان مرضية ، و لا يزال يتطلع لبيع المزيد
منها خلال الثلاثة أيام القادمة ...
كان ( رفائيل) مسرورا بالسير الحسن لمعرض رسوماته ، فقد كان حسب رأيه
الشخصي ناجحا على جميع المستويات ... سواء الفنية منها ، أو الإقتصادية
أو الإعلامية . إذ تصدر واجهة الصحف الباريسية العريقة ، ونال قسطا وافرا من
المدح و الإطراء من قبل الصحفيين و الرسامين الفرنسيين ، وتكلمت عنه
مواقع الرسم في الشبكة العنكبوتية ، وحظي أيضا بتغطية إعلامية راقية
لبعض القنوات التليفزيونية الفرنسية الشهيرة ، وعلى رأسها قناة (tf1)
وقناة (canal+) ... كل هذا الزخم الإعلامي مكنه من بيع لوحات كثيرة
و بأسعار مغرية لرجال أعمال أثرياء ، ولبعض المتاحف أيضا ....
لكن بالرغم من انشغالاته الكثيرة في المعرض ، وما يتعلق به إلا أنه لم
ينس شغفه بلوحة ( الموناليزا) رائعة ( ليوناردو دافنشي) التي تزين حائط
متحف اللوفر الفرنسي العريق ، فكان يزورها كل يوم تقريبا حسبما تسنح
له الفرصة ، فهو مهووس بها إلى درجة الجنون !!! ... وهو على ما يبدو
جنون العباقرة ...
كان يقف بعيدا من لوحة ( الموناليزا) لأن الحشود الغفيرة من عشاقها أيضا قد
سبقته إليها ولكن لا تهم المسافة الآن مادام موجودا مع عشيقته الساحرة
في غرفة واحدة !!! ... بعض الزوار كان يصورها بكاميرا رقمية متطورة ،
والبعض الآخر بكاميرا هاتفه المحمول ، و أما البقية فاكتفوا بإمتاع ناظرهم
برؤيتها من زوايا مختلفة ، حيث تعطي لهم صورة مختلفة قليلا عن سابقتها
وهذا من ألغازها المحيرة المدهشة التي أودعها فيها صاحبها العبقري
(ليوناردو) ....
- أهلا ( رفائيل) ... لقد توقعت أنك ستكون هنا بين لحظة و أخرى ...
همس صوت أنثوي جذاب بالقرب من أذن ( رفائيل) الذي ابتسم ابتسامة
خفيفة عند سماعه ، ورد بلطف ، وهو يستدير للوراء قليلا :
-أهلا ( سلين ) ... يسعدني لقاؤك ، أيتها الفرنسية الجميلة ...
- كنت أود زيارتك في معرضك الذي سمعت أنه ناجح ، لكن كثرة العمل في
المتحف هذه الأيام عاقتني عن ذلك ... أهنئك ( رفائيل) من كل قلبي ،
تستحق ذلك ...
- شكرا ( سلين ) هذا لطف منك ... ها أنا ذا في المتحف مجددا .....
- جئت لزيارة معشوقتك الإيطالية !! ... لقد حطمت الرقم القياسي في عدد
زيارتها ، هكذا ستدخل سريعا كتاب ( غينس) للأرقام القياسية ....
- ها ها ها ... صحيح ، إنها رائعة ، وجمالها يزداد بمرور السنين ، أليس كذلك ؟
- بلى ... إنها جوهرة متحفنا ، وسيدته الأولى ...
تحدث كلاهما لفترة عن أعماله الفنية ، و عن بعض تفاصيل حياته
الخاصة ، براحة وسرور ، فقد كان كل منهما يرتاح للآخر ، وتربطهما صداقة
حميمة توطدت منذ سنوات ... بعد قرابة ساعة من الحديث المنوع ، استأذن
(رفائيل) بالانصراف لأن أعمالا مهمة تنظره ، ولا يمكنه تأجيلها ....
وقبل مغادرته سألته ( سلين) مازحة :
- ( رفائيل) هل عثرت عن ( الموناليزا) الخاصة بك ؟
أجابها ( رفائيل) على عجل ، وبنبرة حزينة :
- للأسف لا ...
- وماذا عن الباريسيات ؟
- إنهن رائعات وجميلات مثلك ... لكن لم أعثر بينهن على صاحبة الابتسامة
الساحرة التي تهزني من أعماقي ... أظن أنني لن أجدها مطلقا في قارتنا
العجوز !!!! ...........
بالرغم من أن ( الموناليزا) رائعة ( ليوناردو) تربعت على عرش الفن لمدة
تزيد عن خمس مئة عام بابتسامتها الغامضة ، إلا أن (رفائيل) في قرارة
نفسه متيقن أنه سيجد من تنافسها ، و تنسي العالم بسمتها الغامضة
ببسمة ساحرة جديدة ، تبعث الإعجاب هي الأخرى لقرون عديدة قادمة ...
بعض أسبوعين رائعين في مدينة ( باريس) طار ( رفائيل) مباشرة إلى
مدينة ( نيويورك) بالعالم الجديد ، ليشارك مع رسامين عالميين آخرين
معرض دوليا مشتركا ، تكون أرباح مبيعاته لصالح عائلات ضحايا أحداث
11 سبتمبر 2001 المحزنة ... كانت هذه المشاركة الإنسانية من ( رفائيل)
تمنحه سعادة و طمأنينة كبيرة ، لأنه يوظف جزءا من فنه لأعمال خيرية ،
و يطرح أنانيته جانبا ...
لم تكن قاعة العرض بعيدة جدا عن مكان حطام برجي التجارة العالميين ،
وقد غصت بزوار كثيرين راغبين في شراء لوحات فنية عالمية ، و مساعدة
عائلات الضحايا ...
وبينما كان ( رفائيل) يجوب بحرية شارع (برودواي) الشهير الذي تقام
فيه العديد من العروض المسرحية لمح عن غير قصد بالجانب الآخر من
الرصيف مجموعة من الشابات كن يتحدثن مع بعضهن بود ومرح .....
و فجأة لمح بينهن شابة مميزة ، و فور رؤيتها خفق قلبه بشدة ، و كاد يتعثر
وهو يمشي ... ومن شدة فرحته ، قال بصوت مسموع بنبرة إيطالية
جميلة :
- يا إلاهي ... لقد وجدتها أخيرا ...
لم تكن ملكة جمال خلابة ، لكنها كانت بالنسبة ل ( رفائيل) الفنان ملكة
جمال عالمه الخاص ، و آسرة فؤاده ، لقد هزته من أعماقه ، فلا يدري ماذا
يفعل... و للحظة ظن أن الزمن توقف ، والكل جمد في مكانه ، إلا هو وهي
فقد ظلا متحركين ، وكانت تنظر إليه أخيرا بابتسامتها الساحرة التي
أفقدته عقله !!! ....
حاول اللحاق بها بسرعة قبل أن يفقدها في زحمة السير ، وبينما هو
يعبر الطريق بتهور ، وقد كان يحدق بها ، ولم يلق بالا للسيارات السريعة
بالطريق ، فكان أن صدمته سيارة بعدما سمع صوت فراملها المخيف من
بعيد ... طار ( رفائيل) نتيجة الصدمة في السماء ، ثم سقط على الأرض
مغشيا عليه ... لقد كان حادثا مروعا ....
- آه .. يا إلاهي ... لم أقصد ذلك ... لقد كان خطؤه ....
بصوت حزين ، وجسم يرتعش من هول الحادثة ، قالت العجوز التي صدمت
عن غير عمد ( رفائيل) ....
لحسن حظه فقد أخذ على جناح السرعة لمصلحة الاستعجالات بأقرب
مستشفى من مكان الحادث ، وفور وصوله أدخلوه غرفة العمليات ، وقد
تجمع حوله مجموعة من الأطياء و الممرضين ، وعلى رأسهم الطبيبة
الشابة (ماريا) صاحبة الابتسامة الساحرة التي كانت سببا في مجيئه
إليها الآن دون أن تشعر !!! ... وقد جمع القدر بينهما من جديد ...
كان ( رفائيل) ينزف من فمه قليلا ... و لا يزال فاقدا للوعي ...
- نبضه ضعيف جدا ، نكاد نفقده ...
قالت الطبيبة (ماريا) ، وهي تراقب بإمعان آلة تخطيط نبض القلب . و بسرعة
مزقت لباسه كاشفة صدره ، وفي يدها قضيبان كهربائيان ، وقالت
للمجموعة :
- أنتم مستعدون .. سنبدأ من جديد ....
و أطلقت شحنة كهربائية على قلبه ، فانتفض قليلا ، ولكن لا يزال النبض
ضعيفا .... لم تيأس ( ماريا) من المحاولة ، وقالت :
- مرة أخرى ... استعدوا .....
أما ( رفائيل) فقد وجد نفسه وحيدا في نفق مظلم ، وقد تراءى له من بعيد
ضوء خافت بالكاد يراه ، فاستجمع قوته ، وتقدم بشجاعة نحوه ، وكلما تقدم
ازداد ت قوة الضوء حتى ظهرت له فتحة النفق ، فرح بذلك ، وجرى بأقصى
سرعة ، ثم خرج منه ، فارتعش جسمه رعشة طفيفة .... عندها قالت
( ماريا) مستبشرة :
- لقد ارتفع نبضه ، إنه يعود إلينا .... لنجرب مرة أخيرة ....
وحكت القضيبان الكهربائيان معا قبل أن تشحنه بهما مجددا ... أحس
( رفائيل) بسعادة كبيرة تغمره لأنه وجد نفسه في حديقة غناء جميلة ،
والجو معتدل لطيف ، و رأى نفس مجموعة الشابات اللواتي رآهن في
اليقظة مرتديات لباسا إيطاليا من عصر ( ليوناردو دافنشي) ، كن قريبات منه
و ينظرن إليه ، ويبتسمن ، وبينهن ( ماريا) صاحبة الابتسامة الساحرة .خطى
خطوات سريعة نحوها ، وقلبه يخفق بشدة ، ثم توقف أمامها قائلا بود :
- هل تسمحي لي برسمك آنستي ؟
هزت رأسها موافقة في استحياء ، وجلست قريبا منه مبتسمة ، وهو يقوم
برسمها بتركيز بالغ ، وفرح شديد ....
في غرفة العمليات انتفض جسمه انتفاضة قوية ، وارتفع نبضه عاليا ،
فرحت الطبيبة ( ماريا) و الآخرون .. وبعد ساعة من الإسعاف الجاد تمكن
الأطباء من إنقاذ ( رفائيل) الذي أنهى أخيرا لوحته التي طالما تمنى رسمها .
وانطلق مع حبيبته الفاتنة ( ماريا) إلى متحف ( اللوفر) ، ونزعا معا لوحة
( الموناليزا) التي تحولت ابتسامتها إلى حزن شديد ، وعلقا لوحتهما الجديدة ، و خرجا معا فرحين بإنجاهما الباهر ، وهما ييشاهدان حشود الزائرين تغمر القاعة ...................
............. تمت بحمد الله ....................