ليست مجرد انتفاضات قلم ، ولا هي حقا اسطورة نتلوها على الأطفال نستجمع منها في قلوبهم ، الشغف ،والحماس ، والرهبة ، والأنفعال الطفولي الجميل ، وليست أطروحة نضعها بين أيدي كبار الكتاب ، نستنتج فيها مواقع الضعف ومواقع القوة ، هي حياة مرت فوقنا ، ومررنا فوقها ، دخلت في أدق تفاصيلنا ، وعشنا أدق تفاصيلها ، أسدلت بعض الملامح على شخصيتنا ، التي إن كان هناك من كونها ، فسيكون التاريخ ، الهوية الفلسطينية ، والحلم الفلسطيني ، والمقاومة الفلسطينية ، واطفال فلسطين ، وسواعد العمل الوطني الفلسطيني ، قضايا ، لم نكن نحن من صاغها ، بل ان التاريخ هو من صاغها، هو من دفعنا لصياغتها في قلوبنا قبل عقولنا ، وبأيماننا قبل خوفنا ، كانت قضيتنا التي نسعى إليها في كل حين ، وكل ثانية ، وكل التقاطة نفس وطرح أخرى .
فلسطين ، تلك التي تشكلت حروفها على مر الزمن ، وتعبثرت أشلائها تحت اقدام الحضارات الآفلة والقائمة ، لم تكن مجرد وطن ، بل كانت خلايا دم تسبح في أجسادنا ، تدخل قلوبنا ، تغذي عقولنا ، وكانت الهواء الذي نتنفسه ، والماء الذي نشربه ، والطعام الذي نزرده في كل حين ، كانت أحلام نومنا ، وواقع صحونا ، بمعنى آخر ، فلسطين كانت أنا وأنت وهو وهم وأنتم ، فلسطين ، ليست مجرد وطن ، ولا أرض ، ولا هوية نحملها بين أيدينا نتوجه بها إلى العالم ، ولم تكن مجرد رواية نرويها لكم في كتبنا ومؤلفاتنا ، ولم تكن مجرد علم تكون من أربعة ألوان إن مر عليه المطر زالت معالمه ، وإن هبت عليه الريح تمزقت أوصاله ، ولم تكن مجرد بقعة من أرض علمها أعرابي بغيمة ، وحين سارت الغيمة في طريقها فقدنا البقعة ، فلسطين هي قبل كل شيء حلم تخلج في أعماق أعماقنا ، ترسخ في صحوتنا قبل منامنا ، أصبح بعدها واقعا ، علينا وعليكم وعليهم تقبله شاء أم أبى ، فلسطين هي تلك القلب النابض في أجسادنا الموتى ، والريح التي تسري لتصل إلى كل ثنية من ثنيات الحياة ، والمطر الذي تبكيه السماء على الأرض القاحلة تروي عطشها ، فلسطين بقعة تلاقت فيها القلوب ، وحنت إليها الأعين ، وانتظرتها الأجيال يوما بعد يوم .
أطلت في مقدمتي وسأطيل أكثر في خاتمتي ، فاعذروا تطفلي على مساحاتكم الخاصة ، فليس هناك محتوى ، وليس هناك عرض لنص ، كل ما أملكه هنا هو بداية لنهاية ، بدايتكم ، ونهايتنا .
أطفال تسير في الشارع ، لا تخشى شيئا ، تواجه الرصاص بصدور عارية ، وتمر من تحت مدافع الدبابات تتحدى ان تدوسها جنازيرها العملاقة ، وتنظر للسماء تتحدى رصاص الطائرات المنهمر كحبات مطر شباط ، توصل رسالتها للسماء مباشرة دون قيود ، دون واسطات ، توصلها وهي تؤمن بأن من أوصلتها إليه كفيل بأن يعيد الحق الضائع إلى أهله ، وقادر على أن ينبت الخوف في قلوب من حديد ، وأن ينبت الشجاعة في قلوب من لحم ودم ، وقادر على أن يجعل العبرة في أصغر خلقه .
هناك ليست مجرد صور تلتقطها عدسات الصحافة والمصورين ، وليست مجرد قمصان بيضاء وحمراء يرتديها مبعوثوا السلام ، وليست مجرد قوت يوم يحفرون الصخر ليجنوه ، إنها حياة ، حياة حيث نسل رغيف الخبز من أيدي العدو ، وحين يكون مصدر رزقنا من نحاربه ليل نهار - أعتذر الرزق من الله وحده ، لكن ما قصدته في عبارتي اننا نضطر لنخضع الارواح لمذلة لقمة عيش لننبت حب الوطن في اجيال قادرة على اكمال المسيرة - مجرد مرور في شوارع فلسطين ينبئنا انه يشترط علينا نوع الهواء الذي نتنفسه ، ونوع الطعام الذي نأكله ، ونوع الحديث الذي نتكلمه ، إن الحياة هنا ، هي قلب النهار ليلا والليل نهارا - ليست مخطوطتي للمبالغة يا سادة ، وليست لمجرد الحديث فقط ، بل أنا أتكلم عن فترة مرت على هذه الأرض ، كنا نتمنى فيها ان تنشق الأرض وتبلعنا في جوفها ، فربما يكون لهيب جوفها أرحم علينا من حال نعيش فيه - أسطوانة تتكرر كل يوم على حواجز المدينة ، تفتيش بغاية او بدون غاية ، عملية إذلال راقت لهم ، صوت الرصاص بات الآن عندنا كمعزوفة موسيقية ، نصاب بالهيستيريا إن لم نسمعها كل حين ، ووقت الفرح والتسلية للشبان ، هو حين تدخل القوات المدينة فنتسلى برؤيتهم يدخلون ويغادرون ، ونتسلى أكثر في رشقهم بالحجارة ونحن نعلم علم اليقين أنها لن تؤثر فيهم مقدار حبة خردل ، إن كان هناك من أذى لهم فيها فهو صوت تلاطمها مع المعدن المحصن ضد الرصاص ، كتلاطم الموج بصخور الشاطئ ، والطر فة الأجمل هي حين يهرب الشباب متراكضين حين تقوم القوات بملاحقتهم ، بالآليات العسكرية الفائقة القوة والترتيب والتنظيم والتسليح ، فتراهم كمياه نهر تشعبت في كافة السبل أمامها ، لا تنفك تجد سبيلا فتسلكه لتصل في النهاية لمستقرها الأخير فتتمازج مع مياه البحر ولا يعرف لها أثر ، حين تسمع الرصاص أول ما تفكر فيه أنت الملجأ الآمن ، وأول ما نفكر فيه نحن ، كيف نصل إلى أسطحة البيوت والشوارع بالسرعة القصوى ، لنشاهد الحدث ، ونتراشق الإشارات والتعليمات بالأيدي والصراخ والضحك ، وحين تتم عملية اعتقال تجد الكل قد تأهبوا ، كأنه فيلم يعرض للمرة الأولى في سينما المدينة ، حين تكون البطلة أنجلينا جولي ، أو يكون البطل براد بيت ، وترى الجميع تقمص شخصية المحقق الأشهر في العالم شارلوك هومز ، والبعض يتقمص دور العميل السري جيمس بوند ، ليتحقق من الخبر بأقصى سرعة ليبثه للجميع .
في الليل يتجمع الشباب في الشارع قرب محل تجاري أو دكان صغير ، يستأنسون كأن شيئا لم يكن ، وتسمع صراخهم إن كانت هناك مباراة تبث في المحطات الفضائية أو المحلية ، تجمع فريقي ريال مدريد وبرشلونة ، وكأن حياتهم في تلك اللحظة انحصرت في تحقيق هدف الفوز أو التعادل ، أو تراهم يشعلون الأرض فرحا ورقصا في الأفراح ، يتحلقون في حلقات الدبكة المؤلفة من أبناء العائلة والأصدقاء والجيران والمعارف ، يثيرون الغبار في الحي بأكمله ، وتسمع صفير وتفرقع الألعاب النارية في كل حي ، أو ترى الأطفال وقد تعالت صيحاتهم وهم يلعبون إما كرة القدم أو يلعبون ب " البنانير* " وقد حقق أحدهم نصرا ، وحين تلعب الفتيات " الغميضة ، الطميمة ، الزقوطة ، أو الأوكزة*" سويا في فرح وحماس يتقافزون بكل حيوية هنا وهناك ، أو حين تجتمع السيدات في منازل بعضهن البعض يشربون القهوة ويتبادلون الأحاديث والثرثرة ، وبعد كل هذا يجتمعن قرب الباب لمدة أطول من مدة جلوسهن وكأن الحديث قد بدأ الآن ، وحين تسمع الرجال يسترسلون في أعمالهم اليومية ، ويخبرون بعضهم البعض بقصص حصلت معهم في يومهم ، أو في طريقة ملاقاة الأطفال والدهم وقد عاد من عمله بقولهم " بابا شو جبتلي معك ، أو بابا أعطيني مصاري بدي أروح اشتري " ، وحركة السير الدائمة التي لا تنقطع ، أو ازدحام الأسواق بالناس ، فتصبح كيوم الحشر ، عند الأعياد ، أو ترى أفواج المصلين في رمضان وقد ابتدأت صلاة التراويح أو انتهت وهم خارجين إلى أو عائدين من المسجد .
هل تتصورون أن الحياة هناك لديكم تصبح هكذا ، أنا أتصور أن أيا كان في وضعنا سيعتاد مع الزمن ، وستصبح له حياة كحياتنا ، فنحن ننطلق للجامعات والمدارس ، ونفرح ونحزن ونبتسم ، ونرقص ونغني ، ونعطي كل شيء في حياتنا حقه ، اصبحت حياتنا تمتلك تلك المعالم التي بات من الصعب جدا علينا تغيرها ، وبات اصعب أن نتخلى عنها ، فقد أصبحت جزءا منا لا من حياتنا فقط ، تلك ليست قصة ، بل واقع نعيش فيه ، تسمعون في نشرات الأخبار الكثير ، لكن ذلك الكثير هو جزء بالمليون مما هو على أرض الواقع ، تتصورون ردات الفعل ، لكن تأكدوا أن ردة الفعل التي تصورتموها هنا هي أقل بكثير من التي رسمتموها في خيالكم ، لأننا بكل بساطة ، اعتدنا العيش هكذا ، اعذروا جرأتي ، واعذروا برودة أعصابي وأنا أصف الوضع ، فأنا أصف الآن منظرا من مناظر الحياة لدينا ، حيث أصبح الغريب عليكم طبيعي لدينا ، والطبيعي عندكم ، غريب عنا .
في النهاية تقبلوا فائق احترامي